Main content

بقلم دارين أبو سعد وترجمة غسان مكارم

تسعى المرأة جاهدة إلى اليوم لتمهيد الطريق نحو المساواة وتخطّي حواجز ومساوئ النظام. لم يكن التقدم الوظيفي للنساء أمرًا مسلمًا به في أية حال، فقد خضنا معارك عنيفة لتحقيقه. وبالرغم من تلك المعارك والإنتصارات، ما فتئت المرأة تعاني من الظلم في مكان العمل حيث يأتي التمييز بأشكال متعددة، يخلق كل منها عائقًا جسيمًا أمامها. ويبقى أن نعترف بأن أنماط إستمرارية اللامساواة بين الجنسين في مكان العمل لم تأت مصادفة، بل هي قضية كبيرة وهاجس يحتاج إجراءات جادة وتدابير فعالة، ولا يقتصر على بنية أو مسار أو ممارسة محددة. وتكون الأولوية هنا إدانة ممارسات الأنظمة الأبوية السياسية والإجتماعية والإقتصادية التي تدفع بدور المرأة في الوظيفة إلى الخلف وتقلل من أهميته.

تاريخيًا، اضطرت النساء للمطالبة بالحق في العمل خارج نطاق الأسرة. وبحسب "تاريخ الحركة النسائية في لبنان" التابع لبرنامج "تمكين المرأة للقيادة" (WE4L)،١ انتظر لبنان حتى العام ١٩٧٤ للتصديق على إتفاقيات منظمة العمل الدولية بشأن تعزيز توظيف النساء وحماية ظروف عملهنّ. وفي العام ١٩٨٧، إكتسبت النساء المساواة في التقديمات الإجتماعية التي كانت تقتصر في السابق على الرجال، ولم تحصل المرأة اللبنانية المتزوجة على الحق في التجارة من دون إذن الزوج حتى العام ١٩٩٤.

ورغم تعدد الحقوق المكتسبة، تواجه النساء اللبنانيات تمييزاً مستمرًا على عدّة مستويات. من الصعب على النساء الإحتفاء بالحقوق الأساسية في حين أن الواقع في سوق العمل ما زال يشوبه التمييز، من إنخفاض الأجور والتحرش وما يعرف بالسقف الزجاجي.٢

يشكّل السقف الزجاجي، بأشكاله المرئية وغير المرئي، واقعًا جليًا للعاملات، حيث يحطّ من المستوى الهرمي المهني الممكن للمرأة. ويؤكد المعهد العربي للمرأة (الرائدة، ٢٠١٠)٣ على مواجهة النساء في لبنان لعوائق هائلة تتعلّق بالنهوض بحياتهن المهنية بشكل عام، من ناحية، والوصول إلى المناصب القيادية، من ناحية أخرى. فمهما حاولن تحطيم الحواجز وتخطّيها، يجدن أنفسهن بمواجهة نظام أبوي عدواني متصلّب.

تسعى النساء على المستوى السياسي أيضًا لكسر السقف الزجاجي والحصول على فرص متساوية للوصول إلى مواقع صنع القرار. لم تكن المفارقة صغيرة بأن يأتي رجل كأول وزير لشؤون المرأة في لبنان، حيث وجد التأويل الذكوري أنه لا يحق للمرأة أن تُعيَّن وزيرة لشؤونها. وتؤدي ندرة تمثيل النساء في المناصب القيادية السياسية إلى إبعادهن عن عملية صنع السياسات الذي يؤدي بدوره إلى تهميشهن.

يأتي هذا التهميش بكافة الأشكال ويسبب ضررًا كبيرًا عندما يكون على المستوى الإقتصادي. فوفقًا لدراسة "مشاركة المرأة السياسية: التهميش وإعادة إنتاج الأدوار الإجتماعية" التي قامت بها مؤسسة دعم لبنان،٤ تواجه النساء عوائق كبيرة تحول دون مشاركتهن السياسية الكاملة، وهي تشمل، على سبيل المثال لا الحصر، النظام الطائفي اللبناني والعائلية السياسية والزبائنية. تسهم هذه العقبات في تدعيم السقف الزجاجي الذي تهدف المرأة اللبنانية إلى تحطيمه وجميع العوامل الهيكلية التي تدعم وجوده.

ويُعَد الحفاظ على بيئة عمل آمنة وصحية أمرًا ضروريًا لإنتاجية ومعنويات العمال والعاملات. لكن، للأسف، تُثبت قصص النساء الناجيات من التحرش في مكان العمل أن سوء السلوك هو مشكلة إضافية على المرأة تحملّها. وحتى في عصرنا هذا، ورغم تزايد الوعي بالموضوع والتشريع الصارم والعقوبات، فإن التحرّش مستمر ويقوّض حياة النساء المهنية. وفي كثير من الحالات، تضطر النساء إما لغض النظر والتماشي مع تحرّش مديرهن أو الإستقالة والإمتناع عن العمل.

عند التعامل مع التحرش، علينا الأخذ بالإعتبار ديناميات السلطة التي تحكم بيئة العمل وخطرها الإضافي على الضحية. فالتحرّش يشمل الجنسي، لكنه لا يقتصر عليه، بل قد يكون جسديًا أم لفظيًا، كالتنمّر أو علاقات العمل السامة. وهذا يضع النساء في وضع لا تُحسدن عليه ويحول دون وصولهنّ للعدالة الاقتصادية.

يستمر التحرش الجنسي في سوق العمل اللبناني منذ الأزل، وقد قامت اللجنة الوطنية للمرأة اللبنانية٥ في ٣ آذار ٢٠٢٠ بتقديم مشروع قانون لتجريمه وإقتراح تعديلات على قانوني العقوبات والعمل. كما تستمر النسويات في لبنان بالضغط لهذا التجريم، والمساعدة على خلق بيئة أكثر أمانًا وتمكينًا للمرأة في مكان العمل، وتفكيك سلوك الرجال المسيء وسلطتهم على النساء.

يشير موقع باي-سكيل (PayScale) إلى أن المرأة تكسب ٨١ سنتًا أميركيًا للدولار مقارنة بالرجل (آذار ٢٠٢٠).٦ وبناء على دراسة أجرتها الجامعة اللبنانية الأميركية في ٢٠٢٠، تكسب النساء في لبنان بالمعدّل ٧١٪ مما يكسبه الرجال (الجامعة اللبنانية الأميركية، ٢٠١٠).٧ بيد أن الإفتقار إلى البيانات الرسمية والمحدثة والمصنفة حسب النوع الإجتماعي في لبنان يزيد من تهميش النساء ويصعّب التحليل الإجتماعي والإقتصادي.

هذا ويأخذ إخضاع النساء في مكان العمل شكل الفجوة بين الأجور، حيث رواتب النساء أقل، وهي تتّسع حسب إختلاف السياقات. مثلًا، يتبيّن أن الفجوة أوسع بالنسبة للنساء الملوّنات والنساء في المناصب العليا، ولا علاقة لها بمستوى التعليم أو الخبرة أو الكفاءة في هذه الحالة، فهي مجرد قضية نوع إجتماعي. لا ينبغي أن يتقاضى الرجال مزيدًا من المال مقابل أداء عمل ما لمجرد كونهم رجال. والفجوة لا تقتصر على بضعة قروش ولا علاقة لها بالخيارات المهنية للمرأة التي لا تلغي وجود حواجز نظامية أمام الفرص.

تكثر أسباب الفجوة في الأجور بين الجنسين وهي لا تقتصر على بلد معيّن، وتجهد النساء في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مكافحة اللامساواة في مكان العمل. في لبنان تحديدًا، ومنذ اليوم الأول، وقفت النساء في طليعة الحركات الإحتجاجية التي إندلعت في تشرين الأول ٢٠١٩، ولم تقتصر قيادتهن على المسيرات، بل قمن بالحشد للإنتفاضة وتنظيم الإعتصامات والهتافات والنقاشات السياسية، ومع مطالبتهن بالعدالة الإقتصادية والإجتماعية، كن يقاتلن هياكل السلطة الأبوية في البلاد بأكملها.

لم تخض النساء في لبنان معركة ضيّقة الأفق، فقد كافحن بنشاط محموم لزيادة المعرفة ونشرها من خلال النضال للمصادر المفتوحة، وطالبن بتصنيف الإحصاءات حسب النوع الإجتماعي للمساعدة في معركتهن ضد النظام الإجتماعي الذكوري.

في العام ١٩٧٤، خرجت النساء في لبنان إلى الشوارع للمطالبة بإصلاحات في السياسة الإقتصادية، وقد انعكس غضبهن في الشعارات والهتافات: "الإحتكار خنق الناس،" لكن اللامساواة الإقتصادية لم تتوقّف. وفي ٢٢ تشرين الثاني ٢٠١٩، أعلن الوزير أكرم شهيّب عن تذكيره للموظفات المتزوجات العاملات في المجالين التعليمي والإداري بقدرتهنّ على تقديم طلب إنهاء الخدمة بحجّة الزواج. وأوضح الوزير أن هذا الإجراء سوف يساعد في الحفاظ على العلاقات العائلية من خلال تثبيت هذه المسؤولية على المرأة وتحديد دورها على هذا النحو.

هكذا، تسود اللامساواة على أساس الجندر على مختلف المستويات وتعدد القطاعات والصناعات. وبالرغم من بعض التقدم على مر السنوات الماضية، يبقى الفوز بعيد المنال. فالتحرش الجنسي والقوالب النمطية والوظائف التي يهيمن عليها الذكور تصعّب على النساء مهمّة العثور على موطئ قدم في مكان العمل، فالمسألة تتطوّر بوضوح، لكن الطريق ما تزال طويلة.

تحتل اللامساواة الجندرية مختلف جوانب الحياة الإجتماعية والإقتصادية، مما يعني أيضًا تضييقها لفرص النساء للنهوض بمهنهن مقارنة بالرجال، خاصة في المهن التي تخرق معايير النوع الإجتماعي التقليدية. يجب ألا نستخف بضرورة تفكيك هذه الحواجز، وعلينا إزالة القيود الهيكلية الحاملة لبذور التمييز من جذورها، وأن نضع في مقدّمة أولوياتنا معالجة التفاوتات البنيوية التي تواجهها المرأة في حياتها المهنية والتي تؤدي بدورها إلى صعوبات إقتصادية قائمة على النوع الإجتماعي.

Women and Economic Justice

دارين أبو سعد حاصلة على بكالوريوس في المساعدة الإجتماعية وتنمية المجتمع مع تخصص فرعي في علم الإجتماع من الجامعة اللبنانية الأمريكية. تعمل حالياً مساعدة ضمن مشروع تمكين المرأة للقيادة" (WE4L). خلال دراستها ، جمعت معرفة شاملة عن كفاح المرأة وآلامها نتيجة لأنظمة الحكم الأبوية المنهجية. تهدف إلى العمل من أجل التغيير المنهجي في الجوانب الدستورية والإجتماعية والإقتصادية التي تدير حياة المرأة، وخاصة في الشرق الأوسط.

 

١ برنامج "النساء والسلطة والسياسة: معالم وتسلسلات زمنية،" https://womeninleadership.hivos.org/timeline/ar.

٢ السقف الزجاجي (من اللغة الإنكليزية: glass ceiling) هو إستعارة تستخدم من أجل تمثيل حاجز غير مرئي يحدد من ترقي مجموعة ديموغرافيّة معيّنة (تطبّق عادةً على الأقليّات) في التسلسل الهرمي في سوق العمل أو المجال الإحترافي.

٣ مجلة الرائدة، المعهد العربي للمرأة، https://inhouse.lau.edu.lb/iwsaw/raida128/EN/p01-64.pdf.

٤بين إقصاء الكيانات السياسية وأعباء الأدوار الإجتماعية للنساء: دراسات حالة من لبنان، https://civilsociety-centre.org/sites/default/files/resources/ls-womenleadership-casestudy-ar.pdf..

٥ناشطات لبنانيات تسعين نحو تعديل القانون لتجريم التحرش الجنسي، https://www.the961.com/activists-seek-to-criminalize-sexual-harassment.

٧التمييز في الأجور بين الجنسين في لبنان، تقييم أحدث الإحصاءات، https://laur.lau.edu.lb:8443/xmlui/bitstream/handle/10725/3840/Gender.pdf.