Main content

بقلم لودي عيسى وترجمة كلودين فرح

عندما إندلعت ثورة لبنان المناهضة للحكومة في ١٧ تشرين الأول، شقّت النساء مساحات خاصة بهن وسط الإحتجاجات التي عمّت البلاد، ليطالبن بوضع حدّ للفساد والسياسة الطائفية، وينددن بمستوى العيش المتردّي والأزمة المالية، ويرفضن النظام الأبوي الذي يجعلهن مواطنات من الدرجة الثانية وفق كل المعايير.

وقد سلّطت أبرز صور الإحتجاجات الضوء على النساء فأصبحت إحداهن رمزاً للثورة بعدما انتشر فيديو يظهرها وهي تركل حرساً شخصياً لأحد الوزراء بعدما أطلق الرصاص الحي في الجو. وقد برزت صور النساء وهنّ يسرن في وسط بيروت يقرعن على القدور والمقالي. وغالباً ما فاض فيسبوك بفيديوهات لنساء عمدن إلى إستغلال الصور النمطيّة المجحفة بحقهن التي تعتبر أنّ المرأة تحتاج إلى الحماية، فأمسكن بأيدي بعضهن البعض ليقفن جداراً يفصل بين المحتجّين وعناصر قوى الأمن المسلّحين.

غير أنّ الصحافيات المستقلات اللواتي تولّين تغطية المظاهرات من الساحات بالكاد ورد ذكرهن. وفي حين أنّ إشعال الإطارات وإنتشار المتاريس على الطرقات يعرقل وصول الآخرين والأخريات إلى عملهم/ن، يتضاعف عمل الصحافيات/ين ثلاث مرات خلال الأزمات.

وقد قدّمت الثورة لمصوّرات الفيديو فرصة إستثنائية لتوثيق التاريخ ولكن الأمر لم يخلُ من التهديدات المتعدّدة الأبعاد؛ أكانت ناتجة عن طبيعة العمل الصحفي أو لمجرد أنهن نساء يتولين أدواراً عامة.

وفي هذا الصدد، قالت مصوّرة الفيديو المستقلة جنا خوري١، "كان من الأصعب حماية نفسي وعدّتي فيما أحمل الكاميرا، لا سيّما حين ينقلب الوضع نحو العنف. في ليلة تغطيتي الأولى، رأيت أحد عناصر القوى الأمنية ينقضّ على الجميع بهراوة. لم يميّز بين ضرب إمرأة أو رجل واتجه نحوي للهجوم علي ولكنه توقف لأنني رحت أصرخ نوعاً ما".

في لبنان، تؤدي القوانين المبهمة إلى عدم حماية النساء من التحرّش أو السلوك المخلّ بالآداب في أماكن عملهن. فالمادة ٧٥ من قانون العمل اللبناني تجيز للموظف/ة ترك عمله/ها والحصول على "تعويضات الصرف" إذا "أقدم رب العمل أو ممثله على إرتكاب أعمال عنف في شخص الأجير". ولكن تعريف "عمل العنف" غير محدّد أكثر من كونه عنفاً جسدياً، ما يترك للمحاكم تأويله منذ خمسينات القرن ٢٠، في حالات العنف اللفظي والجنسي والإقتصادي وغيرها من أشكال العنف.
ويتضاعف التهديد بالنسبة للعاملات/ين في مهن تنطوي على مخاطر عالية، مثل الصحافة التي تقود المراسلين/ات إلى شوارع يهرب الجميع منها سواهم/ن. وغالباً ما لا يكون صاحب/ة العمل مصدر التهديد للصحافيات اللواتي عند تغطية الثورة اللبنانية، بل عناصر الأمن أو المتظاهرات/ين الذين لا يريدونهن أن يصوّرن الأحداث.

وقالت المصوّرة العراقية المستقلة جو لجين٢ التي تقيم في لبنان منذ ثمانية أعوام، "في الأيام العادية، خارج إطار الثورة، لم أتمكن قط من إستعمال الكاميرا في الشارع. وتعرّضت مرةً للتوقيف لمجرد إستخدامي الكاميرا. لم أكن أصوّر أي شيء خطير ولكن، قبل الثورة، لم يكن يسمح لنا تصويب كاميراتنا إلى أي من عناصر القوى الأمنية".

كما زادت جنسية لجين من حدة الضغوطات على عملها خلال الثورة؛ وكأنما كونها امرأة لم يكن كافياً. ذكرت حوادث طريفة حيث كان الناس يسألونها ما إذا كانت ضمن "برنامج تبادل" من الثورة العراقية ولكنها تابعت لتسلّط الضوء على العنصرية المتفشية، حيث كان الآخرون/الأخريات يقل إستعدادهم/ن للمشاركة لها فور سماع لكنتها عند محاولتها إجراء المقابلات معهم/ن.

وفي إشارة إلى المخاوف بأنّ الثورة لم تكن عفوية بل مدعومة من مموّلين خارجيين، أضافت لجين، "أفهم إرتياب الناس بسبب انتشار مؤامرات التمويل غير اللبناني آنذاك ولكنني لم أفهم لما ذوو/ذوات البشرة البيضاء أو الأوروبيون/ات لم يواجهوا تلك المشكلة".

كذلك تدرك المصوّرات أهمية عدم تعميم تجاربهن الشخصية نظراً إلى العدد الهائل من الناس في الشوارع وصعوبة نقل كل ما كان يجري فعلاً بأمانة.

تضيف لجين، "شعرت بالأمان عموماً منذ اليوم الأول، رغم أنني كنت وحدي تماماً في الليلة الأولى محاطة بمئات الرجال. ولكن لا يمكنني تعميم تجربتي إذ أعرف فتاة أخرى قبّلها شرطي على شفتيها غصباً عنها".

فعلاً، تظهر مقاطع الفيديو المنتشرة عبر مواقع التواصل الإجتماعي معاناة الصحافيات في لبنان أثناء الثورة. فالمراسلة دارين الحلوة تعرّضت أيضاً للتقبيل على خدّها، مباشرةً على الهواء، أثناء تغطيتها الإحتجاجات. بعدما قامت عدد من الشخصيات العامة بمشاركة مقطع الفيديو بشكل إيجابي، ردت الحلوة رداً على صفحتها الشخصية على تويتر، إستنكرت فيه الحركة.٣

الصحافية ومقدّمة نشرة الأخبار ديما صادق فقد تعرّضت - وما زالت تتعرّض - إلى حملة تحرّش وتهويل عنيفة من المعارضين/ات السياسيين/ات.

خلال تغطيتها للإحتجاجات المناهضة للحكومة، تعرّضت ديما إلى الهجوم والتنمر المستمرين، فسُرق هاتفها، وواجهت حملة إبتزاز مجهدة تسبّبت لوالدتها بسكتة دماغية، وإستقالت من منصبها في محطة LBCI جرّاء الضغوطات لأنها وجدت نفسها "على يقين أنّ سبب الإستبعاد [عن البرامج السياسية] هو سياسي".٤

فضلاً عن ذلك، تمارس قوى الأمن الداخلي التهويل ضد ديما، عبر قمع حريتها في التعبير وإستدعائها للإستجواب بعد صدور شكاوى من سياسيين عن مقالاتها ومنشوراتها على مواقع التواصل الإجتماعي.٥

وقالت ديما في فيديو٦
نشرته المؤسسة العربية للحريات والمساواة في ٧ كانون الثاني ٢٠٢٠، "أتعرّض منذ خمس سنوات لتحرّش لفظي وتهديدات علنية، تهديد بالإغتصاب، تهديد بالقتل، تشويه سمعة، إغتيال معنوي لشخصيتي، إتصالات هاتفية لعائلتي، إتصالات هاتفية لأمي..."

رغم شعورها بالأمان، تعرّضت لجين إلى الغاز المسيل للدموع والرشق بالحجارة والضرب، كما نُشلت كاميرتها عن رقبتها بعنق وأصيبت بكسور في رجلها على يد عناصر قوى الأمن. وفي حين أنّ الثورة كانت سلمية غالباً، حدثت مواجهات بين المحتجّين/ات وقوى الأمن على مدى أسابيع. وفي الليالي العنيفة أو في المناطق الشديدة التوتّر، كان الرجال يحاولون "حماية" لجين لدى إقترابها من الخطوط الأمامية للمواجهات، فكانوا يعاملونها على أساس الصور النمطية للمرأة وليس كإعلامية محترفة.

وفي هذا الصدد، قالت، "كانوا ينصحونني بأنه ليس مكاني" وذكرت بعض الأمثلة على تعليقاتهم: "ماذا تفعلين هنا؟ عودي أدراجك، أنت فتاة، ستتأذّين".

وأضافت لجين، "أحياناً قد يظن البعض أنه يحق لهم أن يملوا علي ما أفعله لأنني امرأة ولكنني لا أريد التعميم أو الإفتراض" بعدما روت كيف سحبها أحد المتظاهرين إلى الخلف لإبعادها عن نقطة معيّنة لأنها كانت "تحجب عنه الرؤية بكاميرتها". ولم يعترض المتظاهر عينه حين اتّخذ رجل آخر المكان الذي كانت هي فيه.

ولكن لا بد من جهة أخرى الإقرار بأنّ المصوّرات استفدن، وإن بدون قصدهن، من التمييز في المعاملة نفسه الذي يعيقهن عادةً، لصالح عملهن أثناء تغطية ثورة لبنان. ولمَ لا يستفدن بعد كل ما تعرّضن له؟
وقالت جنا بهذا الشأن، "أشعر أنّ كوني امرأة ساعدني إلى حد ما، لا سيّما قبل أن تصبح الأمور عنيفة. كان الناس، خصوصاً المتظاهرون/ات، يفسحون لي المجال للتصوير ولم يكن عناصر قوى الأمن يعاملونني بعنف بل كانوا أحياناً يبتسمون للكاميرا".

تذكّر جنا مسارعة بعض الرجال لمساعدتها للصعود فوق السيارات أو الوصول إلى الأماكن المرتفعة. كما كانوا يساعدونها في الحرص على الحصول على أفضل رؤية ويطلبون من زملائهم الإبتعاد عنها. وأضافت، "حتى إنّ رجلاً مسناً عرض علي، بل أصرّ، أن يحملني على كتفيه لأتمكّن من التقاط أفضل صورة. وجدت الأمر طريفاً ولكن غير لائق في الوقت عينه".

كان شعور لجين مماثلاً وتذكّرت تلقّيها المساعدة في الأماكن الضيّقة والمرتفعة حيث كان من الممكن أن تقع. ومن بين تلك الأحداث، روت كيف حملها رجلان من رجليها حين كانت تصوّر، "كانا يقولان ’أنت مثل أختنا، أنت مثل أختنا، نيّتنا صافية، نريد تقديم المساعدة فحسب‘".

إنما مقابل أي أفضلية مهنية بسيطة قد تكسبها المرأة بحكم جندرها، هناك نسبة عالية من الصحافيات حول العالم مستهدفات بسبب عملهن. فقد تعرّض نحو الثلثين من الصحافيات إلى التهديد أو التحرّش و٢٦ في المئة إلى الإعتداء الجسدي، تبعاً لدراسة عالمية أجرتها المؤسسة الإعلامية الدولية للمرأة المؤسسة النسائية الدولية لوسائط الإعلام(International Women's Media Foundation - IWMF) عام ٢٠١٨.٧ كما أشارت ٧٠ في المئة من هؤلاء النساء إلى أنّ جندرهن كان عاملاً مساهماً في هذه الإعتداءات.

في لبنان، تواجه النساء أيضاً ضغوطات عائلية للإبتعاد عن الشارع، ما يعرقل تقدّم الصحافيات في مجالهن ويحرم العامة من الوصول إلى المواضيع الجديدة والمنظور الجديد الذي قد يقدّمنه. ويهمل هذا كله أيضاً الوقع النفسي لتغطية العنف والتعرّض له، بحكم تقاطعية التجربة الذي تعيشه المراسلات.

وختمت جنا بالقول، "غمرني الفخر خلال الشهر الأول من النزول إلى الشارع وشعرت بصلة وثيقة مع المجتمع اللبناني. كنت مفعمة بالأمل ولكن عندما بدأ العنف يشتدّ كثيراً وبدا وكأننا عالقون في حلقة مفرغة نوعاً ما، راح القلق يتملّكني. فتجنّبت الموضوع برمته ولم أعد أذهب. شعرت بالذنب من جهة ولكن سلامتي كانت مهدّدة، كما تدهورت صحتي النفسية جرّاء وجودي وسط الإحتجاجات".

لودي عيسى صحفية متخصصة بالنشر المتعدد الوسائط، وقد تخرجت من الجامعة الأمريكية في بيروت بتخصص مزدوج في علم النفس/الإعلام والإتصالات. تعمل حالياً مراسلة وكاتبة في وسائل الإعلام الإجتماعي في عدد من المنظمات، كما تشغل منصب محررة في بيروت اليوم، منصة إخبارية مستقلة. إنطلاقاً من رغبتها بتسليط الضوء على الفنون والثقافة في لبنان، شرعت في تطوير سلسلة من المقالات المعمقة مع عدد من الموسيقيين/ات المحليين/ات. كما أنّها مصورة غالباً ما تعثر عليها متعثّرة بالأسلاك في المسارح ودور العرض.

١ مقابلة هاتفية أجريت بتاريخ ١٤ نيسان ٢٠٢٠.

١ مقابلة هاتفية أجريت بتاريخ ١٥ نيسان ٢٠٢٠.

٣ نشرت دارين الحلوة التحديث التالي بتاريخ ١١ تشرين الثاني ٢٠١٩ https://twitter.com/darineelhelwe/status/1193972373801844737

٤ نشرت ديما صادق التحديث التالي بتاريخ ٢٦ تشرين الثاني ٢٠١٩ https://twitter.com/DimaSadek/status/1199099668149473287

٥إستدعيت صادق للتحقيق مرتين، الأولى في شباط والثانية في أيار ٢٠٢٠

٦
أتت المقابلة ضمن فيديو نشرته المؤسسة في ٧ كانون الأول ٢٠٢٠، ضمن حملة #WeCarryOn https://www.facebook.com/watch/?v=526352074645284

٧ نشر التقرير باللغة الإنكليزية تحت عنوان "العنف والتحرش ضد النساء في الإعلام الإخباري (Violence and Harassment Against Women In The News Media: A Global Picture)، ٢٠١٨، ص. ٧.