Main content

بقلم علا الدبابنة

السبت ١٩ أيلول ٢٠٢٠ العاشرة صباحاً

"ألو، مرحبا علا! معك الدكتور محمد من وحدة التقصي الوبائي"

"أهلاً دكتور"

"إحنا أخذنا منك عينة يوم الخميس ونتيجتك طلعت إيجابية"

صمت... بكاء

"أرجوكِ إهدي، لازم تحكيلي كل شي عملتيه والأماكن اللي رحتيها بالأيام اللي مضت"

ثم إنهالت علي الأسئلة التحقيقية لتحديد تحركاتي والأشخاص الذين قابلتهم/ن مؤخراً، أجبته وأنا غير مدركة تماماً ما الذي ينتظرني، تماسكت نفسي وسألت عن الإجراءات القادمة.

"رح يحكوا معك ويخبروكِ كل شي، أنا طبيبك الآن اذا حسيتِ بأي أعراض خبريني"

إنتهت المكالمة

لم أفهم واو الجماعة تعود على أي "جماعة" ولكن كان هذا تقريباً السؤال الوحيد المتعلّق بحالتي الصحيّة، ما حدث لاحقاً كان أقرب لممارسة الإجراءات اللازمة للتعامل مع من يهدد أمن وإستقرار المواطنين/ات.

أدركت أنني مُراقبة تماماً، من الآن فصاعداً أصبحت رقماً في إحدى الملفات المكدّسة في سجلّات المصابين/ات. أتنقل من شخص لآخر، يتفاجئ هاتفي مثلي بأرقام لم يسبق له أن رآها قبل أن أُدعى بإسمي الجديد "المُصابة". أنا لا أعرفهم ولكنهم يعرفونني جيداً. كلهم، هم حتى يعرفون إسم الدكان الذي إشتريت منه زجاجة الماء يوم أمس عندما اعتقدت أن الجوّ الحار والعطش هو أكثر ما يمكن أن يعكّر صفو يومي في العطلة التي لم أكن أعلم أنني سأمضيها في "موقع عسكري" أبسط متاعبه هي الجوّ الحار والعطش، وأصعبها أن أمثّل على ابنتي ذات الأربع سنوات أننا في رحلة وأن كل شيء على مايرام ولا داعي للقلق حتى عند إنقطاع الكهرباء لساعات طويلة في هذا الجو الخانق الموبوء في الكرافان رقم (١٠٩) الواقع في أخفض نقطة على سطح الأرض، لأمارس أنا لاحقاً إنهياراتي العاطفية ما أن تغفو هي ليلاً.

إتخذت الحكومة الأردنية إجراءات صارمة منذ بداية ظهور جائحة كوفيد-١٩ في مطلع آذار من هذا العام، ونجحت في السيطرة على الوباء والحدّ من إنتشاره بشكل ملفت لعدّة أشهر، من خلال تطبيق أوامر قانون الدفاع بفرض حظر التجول التام لعدة أسابيع ثم السماح بالحركة على نحو ضيّق مع ضوابط واضحة وغير قابلة للخرق. أبرز القرارات الحكومية لمواجهة الوباء تضمنت تعليق دوام المؤسسات التعليمية والرحلات الجوية وإغلاق جميع المعابر الحدودية للمملكة وتعطيل جميع المؤسسات والدوائر الرسمية بإستثناء قطاعات حيوية يحددها رئيس الوزراء في ذلك الحين، مع فرض غرامات مالية وعقوبات على المخالفين/ات تصل حدّ الحبس، بالإضافة الى حجز المركبات وإغلاق المحال والفنادق المخالفة لأوامر الدفاع.

مع مرور الوقت، وإنحسار الحالات المصابة في الأردن بدأت الحياة تعود بشكل تدريجي إلى ما يشبه الطبيعي قبل أن يغير هذا الفيروس معالم الحياة في هذا الكوكب ويصبح الشغل الشاغل "للإنسانية جمعاء". صدرت عدّة أوامر فيما بعد لتقنّن الحركة والتنقل والحدّ من التجمعات وحث المواطنين/ات على الإلتزام بإجراءات السلامة للوقاية من الإصابة والحد من تفشّي الوباء بشكل غير مسيطر عليه.

جاءت هذه الإجراءات بشكلها الحازم والصارم لوعي الحكومة بعدم قدرة منظومتنا الصحية على إستيعاب الأعداد الهائلة من الإصابات المستجدة، إذ تبين المؤشرات الصحية وجود ١١٦ مستشفى في كافة المحافظات بواقع سرير واحد لكل ٧٠٠ مواطن/ة، و٢٠ طبيب/ة لكل عشرة آلاف مواطن/ة١. من المؤكد بأن عدد المصابين/ات بفيروس كورونا ممن هم بحاجة الى دخول المستشفى سيشكلون عبئاً إضافياً على الموارد المتاحة التي تقدم الرعاية الصحية في كافة التخصصات الطبية لعدد من المرضى يرهق قدرتها على مواجهة المخاطر التي يفرضها وباء يفوق في سرعة إنتشاره إمكانيتها على الإستجابة للأزمة.

على كل حال، إذا كان الخوف والقلق من المجهول هو ما دفع المواطنين/ات للإلتزام بالتعليمات النافذة، فإن الفقر والأعباء الإقتصادية التي أثقلت كاهلهم/ن هي ما حمل الشعب على المطالبة بعودة العجلة للدوران والتخفيف من الأوامر الصارمة التي كانت ولا زالت سبباً في خسائر مالية جسيمة لا قدرة للمواطن/ة على تكبّدها في دولة ت/يتقاضى ١٠.٧ بالمئة فقط من المشتغلين/ات فيها دخلاً شهرياً يتعدى ٥٠٠ ديناراً٢ (ما يعادل ٧٠٥ دولار أمريكي)، ويعيش ١٥.٧ بالمئة من سكانها تحت خط الفقر، إلى جانب إرتفاع معدل البطالة الذي بلغ ١٦.٥ بالمئة للذكور ويتعداه الى ٢٦.٨ بالمئة للإناث.

كان للإجراءات التي إتخذتها الحكومة في الإستجابة للأزمة أثرها البالغ على الفئات الهشّة إقتصادياً، تشكل النساء النسبة الأكبر من العاملين/ات في القطاع الإقتصادي غير المنظم الذي يتأثر بصورة مباشرة من جائحة كورونا بالإضافة إلى الخسائر الجسيمة في قطاعات التصنيع والخدمات حيث تتركز النساء ما يجعلهن أكثر عرضة لفقدان وظائفهن. إذ تستحوذ العاملات في القطاع غير المنظم على ما نسبته ٥٦.٨ بالمئة من المؤسسات الفردية للعمل من المنزل٣، كما أن ربع المشتغلات تقريباً يعملن في المهن الأولية وهي مهن ذات دخل محدود ومن الصعب تنفيذها عن بعد ما يهدد إستمرارية المشتغلات بها فيخسرن مصدر دخلهن الذي يعتبر المصدر الوحيد لإعالة ١٤ بالمئة من الأسر في الأردن.٤

من جهة أخرى، يفرض اللجوء خسائر مضاعفة في ظل الجائحة نتيجة الإجراءات المتبعة، خاصةً وأن ٨٦ بالمئة من اللاجئين/ات السوريين/ات في الأردن يعيشون تحت خط الفقر٥، كما تواجه العمالة السورية صعوبات في مواجهة الوباء على نحو متزايد، حيث خسر ١٧ بالمئة منهم/ن عمله/ا بشكل دائم وما يقارب ٧٠ بالمئة يعملون في أعمال غير مستقرة وبلغت نسبة الإنخفاض في معدل أجورهم/ن ٤٠ بالمئة على إثر الجائحة، إلى جانب المخاطر الصحية المعرضين/ات لها علماً بأن ٨٥ بالمئة منهم/ن غير مغطيين/ات بأي تأمين صحي.٦

مضى على الجائحة سبعة أشهر وفقدت كل الإستجابات التي إتبعتها الحكومة فعاليتها مع تزايد الحالات لتتعدى الألف إصابة يومياً. السؤال هو هل من مبرر منطقي للإجراءات الصارمة المفروضة حالياً بعد أن تفشى الوباء؟ ومن سيتكبد ثمن الخسائر المادية التي ت/يدفعها المواطنون/ات جراء قرارات الإغلاق والحظر الشامل المستمرة حتى اليوم؟ وكيف تكون الغرف الحديدية المكتظة هي المكان الأنسب لحشد المصابين/ات في ظروف بعيدة عن أساسيات الحياة الكريمة؟ وكيف سيقلل العزل في ساعات وأيام معينة من إنتشار المرض؟

ستؤول هذه الجائحة إلى نهايتها يوماً ما، وسننسى عدد الإصابات وأوامر الدفاع وصفارات الإنذار، وستبقى العلاقة بين المواطن/ة والدولة تعاني من أزمة ثقة متبادلة حتى أجل غير مسمى.

Public health

باحثة ومنسقة مشاريع في مجال حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين، معنية بتعزيز مبادئ الإدماج والتنوع، في إطار حقوق الإنسان، وأهداف التنمية المستدامة، وتمكين الشباب. على صعيد آخر، تعمل علا كعضوة فاعلة في المجتمع المحلي لتقديم الدعم والمعلومات الضرورية لفئات تواجه تحديات مختلفة، بما في ذلك الدعم النفسي للنساء في مرحلة ما بعد الولادة؛ وتقديم المشورة الوالدية لحماية الأطفال من التحرش الجنسي؛ وكذلك الأشخاص ذوي/ذوات الإعاقات البصرية.

 

١دائرة الإحصاءات العامة الأردنية (٢٠١٩)، الأردن بالأرقام ٢٠١٨، مؤشرات الصحة

٢ دائرة الإحصاءات العامة، مسح العمالة والبطالة ٢٠١٩ الجولة الرابعة، التوزيع النسبي للمشتغلين/ات ممن أعمارهم ١٥ سنه فأكثر حسب فئات الدخل الشهري من العمل (بالدينار) والجنس وفئات العمر الرئيسية والجنسية.

٣مركز القدس للدراسات السياسية (٢٠١٩) ورقة سياسات: حالة الإقتصاد غير الرسمي في الأردن فرص الإندماج وتحدياته

٤ دائرة الإحصاءات العامة (٢٠١٩) مسح السكان والصحة الأسرية ٢٠١٧-٢٠١٨

٥ UNICEF (2017) Situation Analysis of Children in Jordan

٦ International Labour Organization and Fafo Institute for Labour and Social Research (2020) IMPACT OF COVID-19 ON WORKERS IN JORDAN A RAPID ASSESSMENT