Main content

بقلم ميرا عبد الملك وترجمة كلودين فرح

ليلة ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩، تدفّق الناس إلى الشوارع في لبنان، وكنا جميعاً نحمل الهدف عينه، وهو إسقاط مَن تسبب لنا بالعذاب، وهكذا بدأت الثورة في لبنان. فخرج الناس إلى الشوارع مفعمات/ين بالأمل، قائلات/ين: هذه هي اللحظة الحاسمة المنشودة وأخيراً. بدايةً، كان الأدرينالين يمدّنا بالطاقة، لم يكن أحد منا يعلم ما يجري ولكننا كنا نعلم أن لا بد من الإصرار. بعد الليلة الأولى، بعد العنف والغاز المسيل للدموع، بات من الواضح للناس نوع الدولة البوليسية التي نعيش في ظلها والحقد المتراكم ضد هذه الحكومة. أمّا أنا، فأدركت أنّ الأمر سيستغرق الكثير من الوقت. الوقت والطاقة والتضحيات.

ذات مرة، كنّا في إعتصام أمام ثكنة الحلو، تحت شرفة سيدة لطيفة في العقد الخامس من عمرها. أثناء الإعتصام فتحت بيتها للصحفيين/ات الراغبين/ات بالتصوير من زاوية أفضل. كما سمحت لي بدخول حمامها لأنّنا اضطررنا للوقوف أمام الثكنة طول اليوم، وعرضت على بعض الطعام والمبيت عندها في حال الضرورة. عندما شكرتها، أجابتني: "إذا لم نساعد بعضنا البعض فمَن سيفعل ذلك؟" كانت مبادرة لطيفة بسيطة ولكن ما قالته ترسّخ في ذهني وهو صحيح؛ لا أحد سيفعل ذلك، لا الحكومة ولا الأحزاب السياسية. نحن. نحن ندعم بعضنا البعض. في ما بعد، سمعت أنها فتحت بيتها للفارين/ات من عنف الشرطة ولم ترفض إلا عناصر الأمن الذين حاولوا ملاحقة المدنيين/ات.

فانتبهت حينها أننا بنينا مجتمعاً محلياً صغيراً لنا، وأقدم لكن/م في ما يلي عيّنة بسيطة وعاطفية عن مجتمعنا المدعو "١٧ تشرين".

بات واضحاً أنّ المطالب تستلزم الكثير من الوقت، فبدأ الناس ينظّمون صفوفهن/م، بدءاً من غريبات/غرباء يحضّرون الطعام للغريبات/الغرباء في الشارع. تقطعون الطريق؟ يحضرون لكن/م الطعام والماء للحرص على سلامتكن/م.

ولكن عدد الأشخاص الذي كان يبيت في ساحة الشهداء كان كبيراً جداً ولم تكن بضع سندويشات ستفي بالغرض. فتم إنشاء خيمة لطهو الطعام حيث يمكن للجميع تناول الفطور والغداء والعشاء مجاناً. وفي هذا الصدد، قالت ريا بدران، إحدى أفراد "مطبخ البلد": أنشأ صديقنا وزميلنا الطاهي وائل لاذقاني ’مطبخ البلد‘١ بعدما أدرك الحاجة إلى دعم المتظاهرات/ين خلال إنتفاضة ١٧ تشرين الأول عبر طهو طعام ساخن في موقف السيارات مقابل جامع الأمين، حيث نصب العديد من المنظمين/ات الآخرين الخيم أيضاً. وكنا في البداية نعدّ قدراً كبيرة من الهريس ثم الحساء في وقت لاحق من المساء، ولكن سرعان ما توسّع نطاق عملنا. فانتقلنا إلى خيمة أكبر تتسع للمتطوّعات/ين الجديدات/الجدد الكثيرات/ين، والتبرّعات العينية، والوجبات المنزلية التي راح المتظاهرات/ون الأخريات/الآخرون يحضرونها لنا لتوزيعها."٢

وكان عدد الوجبات يختلف باختلاف عدد المتظاهرات/ين في الساحات. ففي الشهرين الأولين، حين كانت الحشود الكبيرة تملأ الساحات يومياً، كان ’مطبخ البلد‘ يوزّع أكثر من ألف وجبة يومياً. وكانت مجموعتنا الأساسية تتألف من ١٥ إلى ٢٠ شخصاً ولكننا كنا نحصل على دعم لا يقدّر بثمن من عدد كبير من الناس (محلياً ودولياً)."

بعد ذلك، أقام البعض حملات تبرّع لجمع أكبر مبلغ ممكن من المال لإطعام الناس، فشعر المقيمات/ون في الخارج أنهن/م مشاركات/ون رغم عدم وجودهن/م هنا. حتى إنه في مرحلة ما، أدلى مطعم "سندويش ونص" المشهور كمطعم وجبات سريعة لبنانية بتصريح حول ١٧ تشرين الأول جاء فيه: "من وقت ما بلشت الثورة ونحنا ملتزمين الصمت عم نشتغل ونساعد قد ما فينا منظمات إنسانية وعلى السكت خارج الدعاية احتراما للعالم. بس يللي عم بيصير لازم نحكي عنّو. كل يوم عم يجينا العشرات من الطلبات على زوماتو وغيرن من لبنانية بالاغتراب عم يطلبو اكل للثوار بالساحات.. حبّينا نخبر لأنو شي بكبر القلب. شكراً للبنانيي الاغتراب."

وبعدما أدرك الناس أنّ هناك احتياجات أخرى غير الطعام، بدأت التبرّعات بالثياب والأدوية والأجهزة الطبية وسرعان ما نظّم الناس صفوفهن/م لتلبيتها.

وكان مجتمعنا يتألف من عدة أمور مثل مطبخ الطعام والأطباء والأدوية والثياب والمشروبات... حتى أننا فرشنا الطريق العام بغرفة جلوسنا، ولكننا لن نخوض في تفاصيل ذلك الآن.

لبّينا إحتياجاتنا الأساسية ولكن بعض الأيام كانت طويلة، فبدأ البعض يلعبون مباريات كرة قدم في وسط الطريق. أترغبين/ون في جلسة يوغا؟ كان موعدها في الصباح الباكر.

إبتدع الناس أفكاراً عديدة لمحاولة المرح وسط الثورة.

كما أننا لا نعتمد على وسائل الإعلام التي يتحكّم بها السياسيون والمصارف من محطات تلفزيون أو صحف أو إذاعات، بل لدينا وسائلنا الخاصة التي تنشر صوتنا، مثل "ميغافون"٣، وهي منصة إعلامية إلكترونية مستقلّة أنشأتها مجموعة من الصحافيات/ين الشباب، والناشطات/ين والمصممات/ين عام ٢٠١٧ لإنتاج تحاليل معمّقة والتحقق من صحة الأخبار المحلية باستخدام وسائط مبتكرة لتعزيز التفكير النقدي والشفافية والمساءلة. وهناك أيضاً "أخبار الساحة"٤، وهي صفحة إعلامية بأسلوب بديل إنطلقت كردّ على تخاذل وسائل الإعلام السائدة خلال مظاهرات ٢٠١٥ واستعادت نشاطها في ثورة ١٧ تشرين الأول لتغطية المظاهرات والإعتصامات الحالية في مختلف المناطق اللبنانية.

ونشأت منصة "دليل ثورة"٥ لنشر معلومات عن الأحداث وموقعها، بينما كانت خريطة الثورة Thawramap تطلعنا أين يتناول السياسيون الغداء للذهاب وطردهم. كنا ندفعهم إلى كرهنا أكثر وكان الأمر يروقنا.

وفي هذا الشأن، يقول أحد/إحدى أعضاء/عضوات Thawramap:٦ "خطرت الفكرة في بالنا في كانون الأول حين كان الناس يتظاهرون تحت منزل شخصية مثيرة للجدل ونشر شخص بارز/ة في الثورة قصة (ستوري) على إنستغرام ي/تطلب فيها من الناس ملاقاة المجموعة هناك. كنا نعرف أنّ العديدات/ين كن/كانوا يريدون الإنضمام وكان من المستحيل إرسال الموقع لكل شخص فردياً. وفي ٧ كانون الثاني، كان وزير سابق ونائب حالي يجري مقابلة تلفزيونية في منزله، فتلقينا عبر واتساب موقع منزله للذهاب والإحتجاج هناك. ثم رحنا نتساءل حول عدد الأشخاص الذي يمكننا الوصول إليه وكم منهن/م قد يحضر، فولدت Thawramap صباح اليوم التالي. وما بدأ كخريطة نما ليتحول إلى تركيز على مجالات مختلفة. ونعتقد أنه أصبح الحساب المركزي الذي يرسل الناس إليه مواقع السياسيين في مكان عام ما مخصص للترفيه، فننشره للّبنانيات/ين وغيرهن/م للذهاب وطرح الأسئلة عليهم، وهذا من حقهن/م، لا سيما وأننا لا نستطيع الوصول إليهم غالباً، ويمكن وصف ذلك مجازياً بصورة واحدة: فالمجلس النيابي، الذي يفترض به أن يكون صوت الشعب، محصّن بالمتاريس من كل الجوانب ولا يمكن للناس الوصول إلى المنطقة أو إيصال أصواتهن/م. إجمالاً، لا تتولى Thawramap تنظيم التحرّكات على الأرض ولكنها تساعد مختلف الأشخاص والمجموعات على التنسيق من خلال هذه المنصة. ما يعني أنّ Thawramap هي ملك أكثر من ٤ ملايين لبناني/ة داخل لبنان وأكثر من ١٠ ملايين خارج البلاد، فضلاً عن أي أحد يريد المساهمة في ثورة ١٧ تشرين. ونركّز خصوصاً على حساب عبر إنستغرام وعندما نحتاج إلى المعلومات، نطلبها عبر القصص فيرسلها الناس إلينا." وإذ تزعم Thawramap أنّ صفحاتها هي ملك الناس فإنها تحصل على معلوماتها منهن/م دوماً وتجري إحصاءات كلما أرادت طرح أمر جديد لمعرفة رأي الجميع فيه.٧

أما في الشارع، فإذا كنت تتوجه/ين من أي منطقة إلى منطقة فيها احتجاجات وسائق/ة سيارة الأجرة مؤيّد/ة للثورة، فعلى الأرجح أنك ستحصل/ين على التوصيلة مجانياً.

ولدينا محاميات/ون يساعدوننا في كل قضية ممكنة، وتتألف اللجنة من فريق من المحاميات/ين والخبيرات/الخبراء القانونيات/ين، والمتطوّعات/ين الناشطات/ين لحقوق الإنسان لحماية المتظاهرات/ين بالتنسيق مع المفكرة القانونية. وقد بدأ عمل المجموعة خلال أزمة النفايات عام ٢٠١٥ كردة فعل على قمع السلطات السياسية للمتظاهرات/ين، فقامت بدعمهن/م أمام المحكمتين العسكرية والجنائية. وفي بداية ثورة ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩، استأنفت المجموعة عملها عفوياً نتيجة فرط إستخدام القوة من قبل الجيش والقوى الأمنية وتوقيف أكثر من ١٣٠ متظاهراً/ة خلال أول يومين من الإحتجاجات التي شملت كافة المناطق اللبنانية. كما هدّد العديد من أصحاب/صاحبات العمل المحتجّين/ات المشاركين/ات في العصيان المدني عبر صرفهم/ن أو خفض أجورهن/م. وعلت أصوات المتظاهرات/ين المطالبات/ين بالدعم القانوني من مختلف الأنواع والإختصاصات، ما دفع باللجنة إلى محاولة تلبية مطالبهن/م. غير أنّ اللجنة غير مرتبطة بأي حملة أو مجموعة معيّنة بل هي مستقلة وتوفّر الدعم القانوني لجميع المتظاهرات/ين والمعتصمات/ين اللواتي/الذين ليس لديهن/م محام/ية بدون أي تمييز.8

تعدد أساليب المشاركة مع مرور الأيام، مَن لا ت/يستطيعن مغادرة المنزل ت/يقرع القدور والمقالي كل ليلة عند الساعة الثامنة. ليس الشارع المساحة الوحيدة للثورة، المنازل لا تقل أهمية عن الشوارع لهذا الهدف. من شرفات المنازل خرج الناس لرش الأرز على رؤوسنا ومشاركتنا الهتاف، إلا أنهم/نّ فتحوا/ن بيوتهم/نّ لمن احتاج منا لمأوى أو دخول الحمام.

كذلك أقمنا جلسات نقاش، حيث نفّس البعض عن إجهادهن/م عبر التحدّث عن السياسة والإقتصاد ومحاولة التفكير في البدائل.

وجمع الناس مهاراتهن/م وقدّموها سعياً لإيجاد البدائل، وهذا هدف لا بد منه فقد قضينا عمراً نناقش البدائل في الإقتصاد والتعليم وسوق العمل والتعاونيات وارعاية الصحية وغيرها. وأذكر في تلك السنين لحظة تململ مررت بها، فما نفع البدائل النظرية ما لم نشرع بالتنظيم لتحقيقها في لحظة كهذه، حين نمر بأزمة وبأمس الحاجة للبدائل.

ولكن علاقاتنا لم تخلُ من الإختلافات أيضاً فكان هناك الداعون/الداعيات للسلمية والساعين/ات للتصعيد. "أنقطع هذه الطريق أم تلك أم ولا واحدة؟ أندع هذه السيارة تمرّ أم لا؟ الجيش ومكافحة الشغب هم إخوتنا! كول/كلي خرا، ارم/ي الحجارة! لا، لا تكن/تكوني cool، ماذا عن المفرقعات؟ أجل طبعاً، ’الكس‘ مش مسبة؟"

وبالرغم من كل إختلافاتنا، في أسوأ الليالي حيث الضرب والغاز المسيل للدموع، نتكاتف معاً: "مَن معه بصل؟ خل؟ بيبسي؟" إذا رأيت شخصاً مغمىً عليه/ا ولا تعرفينه/تعرفها فتحمله/ا. وإذا رأيت شخصاً يتعرّض للضرب على يد شرطة مكافحة الشغب فتتدخّل/ين لمحاولة ردعهم. كما أشكر الأصدقاء/الصديقات الذين/اللواتي جلسوا ساعات في سياراتهم/ن متأهّبين/ات في حال إحتجنا إلى الدعم أو أصابنا أي مكروه.

من الزيارات في المستشفى إلى "فلنبكِ معاً لأننا لا نعلم ما يجري"

خضنا تجارب كثيرة، أموراً بسيطة ننساها وننسى معها أنّ هذا ما يجعلنا مجتمعاً محلياً. فقد الكثيرون/ات الأمل أو القدرة على الإستمرار ولا عيب في ذلك، لا بد لنا أن نفهم أنّ الثورة عمل شاق لكافة المعنيين/ات، عمل لم نسعَ له، كل ما نسعى له هو الحد الأدنى من الحقوق. إنه عمل مرهق ومحبط، كما أنّ كماً هائلاً من الغضب يغلي في عروقنا، فمع كل يوم يمرّ تثبت لنا الحكومة، مجدداً، أنّها غير معنية بنا وبمصيرنا. أمّا نحن فمعنيين/ات بكل فرد منّا، من نساء وعاملات أجنبيات ولاجئين/ات وذوي/ات الميول والهويات الجندرية غير النمطية، كلنا نعاني تحت وطأة هذا النظام الظالم. كما لا بأس بالإعتراف بأنّنا لم نقم بما يجب في ما يتعلق بأولئك الأكثر تهميشاً بيننا، أوحتّى محاولة التواصل معهم ومعرفة الإحتياجات بدلاً من أن نفترض كما نشاء.

الصراع مستمر وطويل المدى، تتعدد العوامل ومسببات الغضب الذي نعيشه، وما نحن سوى في بداية المشوار.

١ بالإمكان متابعة صفحة مطبخ البلد عبر الرابط التالي: https://www.facebook.com/matbakhelbalad/

٢ تمت المقابلة في أيار ٢٠٢٠.

٣ بالإمكان متابعة صفحة ميغافون عبر الرابط التالي: https://www.facebook.com/megaphone.news.

٤ بالإمكان متابعة صفحة أخبار الساحة عبر الرابط التالي: https://www.facebook.com/akhbaralsaha.

٥ بالإمكان متابعة صفحة دليل ثورة عبر الرابط التالي: https://www.instagram.com/daleelthawra/.

٦ بالإمكان متابعة صفحة Thawramap عبر الرابط التالي: https://www.facebook.com/pages/category/Not-a-Business/Thawra-Map-thawramap-103578377997113.

٧ تمت المقابلة في أيار ٢٠٢٠.

٨