Main content

بقلم شيري الحايك وترجمة غسان مكارم

لطالما وجدت صعوبة في شرح ماهية التحرّش لمن لا خبرة له فيها، إلا أنّني حالياً أصبحت مقتنعة بأنّ التحرش يتمثّل بأي فعل ينتهك مساحة الأمان الخاصة بي والذي يترتّب عليه حالة من الإنزعاج أو الضيق أحس بها. قد لا يكون الفعل جسدياً أو حتّى لفظياً، كأن يقوم سائق التاكسي بتعديل وضعية مرآة الرؤية الخلفية بهدف التحديق وعلى وجهه تلك الإبتسامة الخبيثة.

في الماضي، كنت غالباً ما أنجرف في سجالات لامتناهية في هذه الحالات، لكنني تعبت. أحبس الدموع وأتجنّب التفكير بالموضوع حيناً، وأجد نفسي في صدام صعب مع المتحرّش أحيان.

يحاول هذا المقال توثيق قصص التحرّش الذي أختبره يوميًا. وقعت الحوادث الموصوفة أدناه خلال عطلة نهاية الأسبوع في فترة عيد الميلاد، وتم توثيقها من الذاكرة في ٢٠ كانون الثاني/يناير ٢٠١٩، وذلك للإسهام في فهم تجليات التحرش الجنسي في حياتنا اليومية كنساء وتأثير ذلك علينا. قد يبدو بعضها بسيط: إبتسامة، كلمة، ولكن إبتسامة واحدة أو كلمة واحدة قادرة على الإصابة في العمق.

١١:٠٠ صباحًا

صباح السبت، عطلة نهاية الأسبوع الثانية في كانون الأول، روح عيد الميلاد في الجو. أضواء الزينة تشعشع وأغاني العيد تصدح. البرد يخرج بخارًا مع كل نفس والشتاء الخجول يطرق الباب. تلقيت رسالة نصية على هاتفي من رقم غير مألوف.

'ألا ترغبين بدعوتي لشرب القهوة؟'
'من أنت؟'
'خالد، الكهربائي'
'حسنًا، لكن لا أعتقد أنني أعرفك بما فيه الكفاية لدعوتك لشرب القهوة'
'لكنك مؤدبة للغاية وهذا هو كل ما يتطلبه الأمر.'١

إمتنعت عن الرد.

قابلت هذا الرجل مرة واحدة في حياتي. جاء للتحقق من صندوق الكهرباء فور إنتقالي إلى شقتي الحالية منذ عدّة أشهر. حينها، أخذ حريته بالتطفل على حياتي الشخصية.
'أتعيشين لوحدك؟'
'نعم'. إبتسم للجواب فاضطررت أن أكمل: "لكن أهلي غالباً ما يزورون.' شعرت بأن الكذبة لم تكن قوية بما يكفي فأضفت: 'يعمل والدي في شركة لديها فروع في المنطقة، ولذلك يسافر مع والدتي كثيراً.'

وبمجرد الإنتهاء من المهمة التي جاء من أجلها، إستدار إلى وإستمر في إستجوابي.

'أنت من سوريا؟'
'نعم، لكن والدتي لبنانية'. كذبت مرة أخرى مع إزدياد شعوري بالإنزعاج. التحرّش تحرّش، لكن، في بعض الأحيان، من الأسهل أن يتم التحرّش بك كلبنانية مما هو الحال لو كنت أجنبية أو لاجئة.
'تشربين؟'، قال وهو يحمل إحدى زجاجات الكحول الفارغة.
'نعم، هل هناك مشكلة؟'
‘لا، مجرد فضول. يبدو أنك امرأة متحررة.'
'هل يعمل صندوق الكهرباء الآن؟'
'المفترض أن يعمل بشكل جيد، وإذا واجهت أية مشاكل، لا تترددي في الإتصال بي،' مضيفاً بنبرة ذات مغزى.

٣:٠٠ بعد الظهر

إستدار سائق التاكسي، ذلك الشخص الذي نعلق معه داخل صندوق متحرك، وبدأ بالحديث.

'هل أنت متزوجة؟'
'كلا.'
'هل تعيشين مع أهلك؟'
'نعم.' يسهل الكذب مع الممارسة.
'كم هو عدد الأشقاء في البيت؟'
'ثلاثة.'
'أتعلمين أنه يمكنني تأمين كوبونات من مؤسسة٢ أعرفها، تدفع ١٢٥$ عن كل شخص. أنت من سوريا، أليس كذلك؟'
'شكرًا، لست مهتمة، أفضل أن يستفيد من هم أكثر حاجة'.
''أوه، ما أحلاك. لكنك بحاجة للمساعدة، وأنا إنسان طيب، كل ما يتطلبه الأمر هو أن آتي لزيارتك مرة في الأسبوع وإحضار الكوبونات.'
'شكرًا، لا يهمني الأمر'.
'هل أنت متأكدة؟ لكن هذه المساعدة قد تفتح لك الأبواب. بمجرد التسجيل مع تلك المنظمة، سيتواصلون معك بإستمرار. قمت بمساعدة فتاة ذات مرة، كانت لطيفة للغاية، وزرتها بين الحين والآخر، وبعد بضعة أشهر، بدأوا بدفع إيجار منزلها.'٣

عقدت معدتي. نزلت من السيارة ومشيت بقية الطريق.

٨:٣٠ مساءً

تحدث أسوأ القصص في ظلام الليل. كأنثى، تسوء حياتي تلقائياً مع غياب الشمس. كنت أسير في الشارع عندما تباطأت إحدى السيارات، نظر السائق إلي وبدأ.

'هل يمكن أن أوصلك إلى مكان ما؟'
'لا. شكرًا.'
لم يرف له جفن، فلاحقني بالسيارة يعرض مساعدته غير المرغوب بها. 'لا أريد منك أي شيء، لكن الطقس بارد وأنت تمشين؟'
نفذ مني الصبر، أبطأت ونظرت إليه وصرخت، "أنا بخير. من فضلك، إبتعد عنّي.'
فأكمل في طريقه.

بعد دقائق وصلت إلى البار وجلست أنتظر بعض الأصدقاء.
'هل أشتري لك كأسًا؟' قال الشخص الجالس بجواري.
'لا شكرًا، لست مهتمة.'

وصل أصدقائي أخيرًا، وعند سماع قصتي مع الكهربائي، إعتبر أحدهم أن الحادث غير مؤذٍ، وتطوع لتقييمه، لعلني قمت "بتضليل" الكهربائي.

أشعرني التعليق بالضيق. فمن المؤلم أن أرى صديقي يتعاطف بهذه السهولة مع رجل لا يعرفه في حين يصعب عليه التعاطف معي أنا، صديقته.

المصطلح نفسه يكتسب أبعادًا عنيفة في بعض السياقات. من المُتعب أن تضطرّي لمراقبة نفسك طوال الوقت لتجنب "تضليل" رجال أعطوا أنفسهم الحق في طرح أسئلة ذات إيحاءات. لكن بمجرّد وضعهم إياي في قالب جندري نمطي في أذهانهم، فقد قاموا بتضليل أنفسهم بالفعل.

'في المرة القادمة التي يأتي فيها شخص غريب إلى منزلك، إتصلي بي وسآتي ليعلم أن لديك رجلاً في المنزل. يمكنك القول أنني أخوك،'٤ إقترح صديقي كحل.

أعرف أن الإتصال بصديق سيساعدني، لكن لا ينبغي أن أشعر بالحاجة إلى وصي كلما حاولت الحصول على خدمة ما، فأنا إنسان مستقل ولست بحاجة إلى محرم.

الطريقة التي يحدق بها بعض الرجال في الشارع، والطريقة التي يبتسم بها آخرون، في كثير من الأحيان، تتعرض المرأة لبعض الأشياء لمجرد كونها إمرأة.

أتذكّر مرة وأنا أمشي مع صديقتي، قام رجل بالكشف عن أعضائه ومطاردتنا في الشارع. أتذكّر أوّل مرّة تعرّضت فيها للتحرّش وأنا في سن الثالثة عشرة. قال لي الناس وقتها أن الطريقة التي أمشي فيها "تستدعي" الإنتباه. تدرّبت على طريقة مشي "أقل دعوة" وأنا وحدي في المنزل. ثم نصحوني أن أبقي رأسي مطأطأ، وأن أنظر إلى الأرض، كي لا يظن الرجال أنني أحاول لفت إنتباههم. حاولت أن أفعل كما قيل لي، فقد كانوا كبارًا وأنا شابّة، لكنني لم أستطع. لم تكن هذه الطريقة التي تربّيت عليها، لم أستطع طأطأة رأسي خوفًا من التحرش.

مع مرور الوقت، أدركت أن الرجال لا يضايقوننا بسبب مظهرنا أو الطريقة التي نتحدث بها أو نتصرّف على أساسها، بل لأنهم يستطيعون فعل ذلك من دون عواقب.

ولدت شيري الحايك في حمص، سوريا، ونشأت في شيكاغو، الولايات المتحدة الأمريكية. تخرجت شيري من جامعة إلينوي في شيكاغو (UIC) مع بكالوريوس بشهادة في الهندسة المعمارية بالإضافة إلى إختصاص ثانوي في الإتصالات. شيري صحفية معتمدة ومدربة في أكاديمية دويتشه فيله في ألمانيا، وقد حازت على جائزة Goldenen Nica des Prix Ars Electronica 2012  عن فئة الإتصالات الرقمية وجائزة BoBs عن التدوين عبر الإنترنت للعام ٢٠١٢.

١ من الذاكرة، ٢٠ كانون الثاني ٢٠١٩

٢ من الغالب أن يكون السائق يقصد جمعية غير حكومية تعمل في مجال الإغاثة في هذه الحالة.

٣ من الذاكرة، ٢٠ كانون الثاني ٢٠١٩

٤ من الذاكرة، ٢٠ كانون الثاني ٢٠١٩